ثم ذكر رحمه الله تعالى مسألة مهمة، وهي مع أهميتها مسألة واضحة، لكن كثيراً ممن يعميهم التعصب للرجال والهوى يتغاضون عنها ويغفلونها، قال الشارح: (والظاهر أن هذه المعارضات) أي: التشنيعات، أو اللوازم والمعارضات التي عورض بها مذهب أهل السنة والجماعة ، وذكرت في كتب الحنفية المرجئة (لم تثبت عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وإنما هي من الأصحاب)، والمشكلة أن بعض الناس ينسبون إلى الإمام أبي حنيفة أقوالاً؛ للدفاع عن مذهبه، ويشبهون في هذا ما تنسبه الرافضة إلى أئمة أهل البيت مما اختلقوه هم، فحتى الاعتزال والمروق من الدين في بعض الأمور ينسبونه إلى أهل البيت؛ ظناً منهم أنهم بهذا يعظمونهم، ويثنون عليهم، ويكون القول باطلاً، فيكون من نسب ذلك إلى أهل البيت قد أساء إليهم بنسبة هذا الباطل أو المروق إليهم، وكذلك أتباع الأئمة الأربعة وقع منهم شيء من ذلك.
فيذكر الشيخ هنا أن هذه المعارضات لم تثبت عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما فعل صاحب كتاب العالم والمتعلم ، وقد نقلنا منه جملة، فهو ينسب أقوالاً إلى أبي حنيفة رحمه الله وهو لم يقلها قطعاً، أو إلى غيره، وإنما هي من الأصحاب، ويستدل الشيخ على هذا فيقول: فإن غالبها ساقط لا يرتضيه أبو حنيفة ، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله أعقل وأجل من أن يرتضي معارضات ساقطة متكلفة، والدليل يبطلها من القرآن والسنة، والعقل السليم، وقد كان رضي الله عنه في الذروة في صحة العقل والفهم والاستنباط.
ثم أتى بدليل آخر، فالأول افتراض افترض أن الإمام أبو حنيفة رحمه الله لا يمكن أن يقر هذا، والآن يأتي بدليل من الرواية، فقد روى الإمام الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد ، وهذه الحكاية أوردها أيضاً الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى، وهذه الرواية تدور حول حديث، يقول الشيخ هنا: وإن حماد بن زيد لما روى لـأبي حنيفة الحديث الذي أخرجه أحمد و عبد الرزاق في مصنفه من طريق معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن عمرو بن عبسة قال: قال رجل: ( يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: أن يسلم قلبك لله عز وجل، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك، قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: الإيمان، قال: وما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، قال: فأي الإيمان أفضل؟ فقال: الهجرة -أي: أن أفضل المؤمنين هم المهاجرون-، قال: فما الهجرة؟ قال: تهجر السوء )، ولعل ذلك كان بعد فتح مكة ؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية ). قال: ( فأي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد ) أي: أن من هاجر للجهاد هو أفضل ممن هاجر مجرداً عن الجهاد، قال: ( وما الجهاد؟ قال: أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم ).
فالأعرابي يسأل والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبه بأبلغ عبارة، وأوضحها وأبسطها، قال: ( فأي الجهاد أفضل؟ ) فالرجل يسأل عن الأفضل في كل شيء، والرسول صلى الله عليه وسلم يجيبه: ( أي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده، وأهريق دمه ) أي: أنه رجل خرج بماله ونفسه في سبيل الله فلم يرجع من ذلك بشيء، فذهب ماله وذهبت روحه في سبيل الله عز وجل، قال: ( ثم عملان هما أفضل أعمال إلا من عمل بمثلهما: حجة مبرورة، أو عمرة ).
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.